الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (12- 22): {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}{لآتينا كل نفس هداها}: أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} و{لجمعهم على الهدى} و{لجعل الناس أمة واحدة} وقال الزمخشري: على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله: {فذوقوا بما نسيتم}؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال: {إنا نسيناكم} على المقابلة: أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله: على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحداً، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و{هذا}: صفة ليومكم، ومفعول {فذوقوا} محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم {لقاء يومكم هذا}، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله: {إنا نسيناكم}، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.{وإنما يؤمن بآياتنا}: أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع، واستدل بقوله: {وخرّ راكعاً وأناب} {تتجافى جنوبهم}: أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع: تركه. قال عبد الله بن رواحة:وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً. وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم. وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة.وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضاً: هو وعطاء: هو العتمة. وفي الترمذي، عن أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء، {يدعون}: حال، أو مستأنف خوفاً وطمعاً، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.وقرأ الجمهور: {ما أخفي لهم}، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلاً مضارعاً للمتكلم؛ وابن مسعود: وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضاً: أخفيت. وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: {من قرة}، على الإفراد. وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرات، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و{ما أخفي} يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون {تعلم} متعلقة. والجملة في موضع المفعول، إن كان {تعلم} مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في {قرة عين} في الفرقان. وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرأوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}» وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. {ولا تعلم نفس}: نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. {جزاء بما كانوا يعملون}، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.{أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً}، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحياً، فقال له الوليد: أنا أذلق منك لساناً، وأحدّ سناناً، وأرد للكتيبة. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في {لا يستوون}، والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل: {لا يستوون} لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج: ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور: {جنات} بالجمع. وقيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء.وقيل: هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور: {نُزُلاً} بضم الزاي؛ وأبو حيوة: بإسكانها. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف. {وأما الذين فسقوا}: أي بالكفر، {فمأواهم النار}. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل {فبشرهم} إذا كان مصرحاً به فيقول: قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.و{العذاب الأدنى}، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر. وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه: إنه عذاب القبر. وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضاً: هو الحدود. وقال أبيّ أيضاً: هو البطشة واللزام والدخان. و{العذاب الأكبر}، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهدي بالسيف. {لعلهم يرجعون}، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل: يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: {فارجعنا نعمل صالحاً}. وسميت إرادة الرجوع رجوعاً، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} انتهى. ويقابل الأدنى: الأبعد، والأكبر: الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالاً على عجزك.انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد ردّ عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام. {ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها}، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجداً. {ثم أعرض عنها}، قال الزمخشري: ثم للاستبعاد، والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيت الشاعر: استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. {من المجرمين}: عام في كل من أجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا: هو: الكفر. وقال يزيد بن رفيع: هي في أهل القدر، وقرأ: {إن المجرمين} إلى قوله: {بقدر} وفي الحديث: «ثلاث من كن فيه فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالماً». .تفسير الآيات (23- 30): {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}لما قرر الأصول الثلاثة: الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة التي ليست بدعاً في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاماً لمن كان على دينه؛ ولم يذكر عيسى، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.و{الكتاب}: التوراة. وقرأ الحسن: في مرية، بضم الميم، والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافاً إليه على طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبي الذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال: «آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء»، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد: حين امتحن الزجاج بهذه المسألة. وقيل: عائد على الكتاب، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي: إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله: {وإنك لتُلَقّى القرآن}. وقال الحسن: يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس. انتهى، وهذا قول بعيد. وأبعد من هذا، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره، والجملة اعتراضية. وقيل: عائد على الرجوع إلى الآخرة، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: {ثم إلى ربكم ترجعون}.{فلا تكن في مرية لقائه}: أي من لقاء البعث، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها، ولكن نقلها المفسرون، فاتبعناهم. والضمير في {وجعلناه} لموسى، وهو قول قتادة. وقيل: للكتاب، جعله هادياً من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. {وجعلنا منهم}: أي من بني إسرائيل، {أئمة}: قادة يقتدى بهم. وقرأ الجمهور: {لما صبروا}، بفتح اللام وشد الميم. وعبدالله وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس: بكسر اللام وتخفيف الميم. {وكانوا}: يحتمل أن يكون معطوفاً على {صبروا}، فيكون داخلاً في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفاً على {وجعلنا منهم}. وقرأ عبدالله أيضاً: بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل: يوم القيامة يعم الخلق كلهم.{أو لم يهد لهم}: تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه، إلا أن هنا: {من قبلِهم} و{يسمعون}، وهناك: {قبلَهم}، و{لأولي النهى} ويسمعون، والنهي من الفواصل.{أو لم يروا أنا نسوق الماء}: أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث، وتقدّم تفسير {الجزر} في الكهف، وكل أرض جزر داخلة في هذا، فلا تخصيص لها بمكان معين. وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر. وقرئ: الجرز، بسكون الراء. {فنخرج به}: أي بالماء، وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفاً للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية: يأكل، بالياء من أسفل. وقرأ الجمهور: {يبصرون}، بياء الغيبة؛ وابن مسعود: بتاء الخطاب. وجاءت الفاصلة: {أفلا يبصرون}، لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب: {أفلا يسمعون}. ثم أخبر تعالى عن الكفرة، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و{الفتح}: الحكم، قاله الجمهور، وهو الذي يترتب عليه قوله: {قل يوم الفتح} الخ، ويضعف قول الحسن ومجاهد: فتح مكة، لعدم مطابقته لما بعده، لأن من آمن يوم فتح مكة، إيمانه ينفعه، وكذا قول من قال: يوم بدر. {ولا هم ينظرون}: أي لا يؤخرون عن العذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء، وقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في حلول العذاب، فلم تنظروا، فيوم منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم. {إنهم منتظرون} للغلبة عليكم لقوله: {فتربصوا إنا معكم متربصون} وقيل: إنهم منتظرون العذاب، أي هذا حكمهم، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني: منتظرون، بفتح الظاء، اسم مفعول؛ والجمهور: بكسرها، اسم فاعل، أي منتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني: إنهم هالكون لا محالة، أو: وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
|